عدد الرسائل : 85 السٌّمعَة : 0 نقاط : 10000 تاريخ التسجيل : 04/02/2009
موضوع: سيماهم في احذيتهم،،،،،،،،،،،،، الخميس فبراير 05, 2009 7:05 am
[size=16] القصة الأولى : ( سيماهم في أحذيتهم ) .. ALAL
لشيماء وجهٌ يرسم دهشتي غاراً كئيباً ، ولأبويها صمتٌ ينسج بيوت العناكب على ضفاف الدهشة . سبعة كنا : خمسة أطباء وممرضتين . نمر على الأطفال المصابين بالسرطان بسرعة هرباً من الموت المحدق في غرف العزل . حين نصل إلى أي طفل ، يتناول أحد الأطباء الملف ويفتحه دون النظر في أعين البقية . يبدأ بقراءة التشخيص ، ودرجة تفشّي السرطان ، ونوعية الكيماوي المستخدم ، والآثار الجانبية التي يعاني منها الطفل ، وبصوت خفيض يقول توقعاته عن الحالة :" على شفا جرف الموت ، أو شديد التمسك بشعرة الحياة " . ينهي الحديث بالمستجدات في حالة الطفل . كان كلٌ منا يتشاغل عن رؤية أعين البقية بما يتيسر له . الاستشارية تتأمل مخطط العلاج . الأخصائي يُسجِّل البيانات الجديدة . إحدى الممرضتين تلصق بيانات المريض على الأوراق والأخرى تكتب الأوامر الجديدة . زميلتي تعبث بختم الوزارة . تطبعه على ساعدها كل صباح لتؤكد رسميّتها . أنا أغرس بصري في البلاط اللامع وفي الأحذية . قالت زوجتي تعلّمني في ليلة تشتعل بالدفء : " لا تغرنّك الوجوه بزيفها وانظر إلى الأحذية . أنا أحكم على شخصية الفرد من حذائه واعتنائه به ". فصدّقتُ أو كدت .
مذ دخلت قسم الأورام وأنا أحاول معرفة شخصيات زملائي مستخدماً طريقة زوجتي . أُنكّس رأسي طيلة اليوم و لا أرفعه . بلغ بي الحد في أحد الأيام القول لحذاء الاستشارية اللامع وقد أعجبني : " صباح الخير" . فرأيتها تضربُ البلاط بقوة . رفعتُ رأسي فرأيتها تحدجني بنظرة شك أو خجل . أردتُ التوضيح بقولي : " عفواً . لم أقصد ساقيك . أنت تشبهين جدتي " زوينة " في كل شيء . ينقصك البرقع فقط وتصبحين الحاجّة باربارا ". بيد أني تراجعت و قلت لنفسي : " نحن في قسم الأورام ! " . وهروباً من نظرتها تناولت الختم وطبعته على ساعدي مؤكداً لها رسميّتي أنا أيضاً . ثم ابتسمتُ ببراءة . كان زميلي قد فرغ من قراءة الملف ، فقالت الاستشارية كما تقول ذلك في اليوم عشرين مرة : " سأدخل لألقي على الوالدين التحيّة ، وأقول لهم : هلو " . دخلتْ وتبعها الجميع فيما بقيت خارجاً أتظاهر بقراءة البيانات كما أفعل ذلك في اليوم العشرين مرة إياها . الحق أني أخشى رؤية الغريب فوق رؤوس الأطفال ، ومن ثم فقد اتفقتُ مع نفسي ألا أستعجل الموت ، وأدخل عليه . سأتركه يأتي إليّ إن أراد . وإن قال : هلو ، فسأقول : وعليكم الهلو . كان هذا التظاهر بالقراءة ينقذني كثيراً من الألم كما تنقذني قراءة الأشخاص على طريقة رحمة من تأمل العيون المكتفية موتاً ويأساً . هكذا فررت مراراً قبل هذه اللحظة التي أصرّت فيها الاستشارية على دخولي غرفة شيماء وقد اكتشفت لمدة أيام لعبة التظاهر تلك . دخلتُ فغدونا عشرة في غرفة تضيق عنا والخوف .
شيماء وجه صبّ الذهول على وجه الغريب فغدا حائراً . عمرها قرابة السنتين . سمراء بعينين لهما بريق فضة أخّاذ وخاطف . ترقد على سرير أبيض . كان وجه أبيها منحوتاً بالتجاعيد الصارمة تحت لحية سوداء جميلة . بدا يتمتم وقد أسند رأسه إلى كفيه. اقتربت فسمعته يتلو القرءان . الأم تقف جهة رأس شيماء ، تنظر بثقة إلى وجه ابنتها . بدت لي ثقتها أكبر بكثير من تردد الغريب الواقف على بعد شبرين منها . كنا نكتم أنفاسنا متراصين حول السرير . الصوت الوحيد في الغرفة كان لمغنٍّ يتراقص على شاشة التلفاز الصغير والمرتفع داخل الغرفة . كنت مبهوراً ومتألماً إلى حدٍ كبير . بصري لا يستطيع النفاذ إلى الأسفل . رفعت الممرضة اللحاف عن جسد شيماء فبدا متورماً جداً ومحمراً . قالت الاستشارية : " إنها تعاني من التهاب حاد في الأنسجة . وتنزف دمها في جسدها . وضعها صعب للغاية " . أجلتُ بصري في الجميع . كأني أراهم لأول مرة . كيف لم أفكر سابقاً في التفتيش عن تجاعيد الدمع على سطوح الأحذية ؟ . والد شيماء ترك العنان لمحجريه . بدا أنه يعرف كل شيء . وأمها تنظر بثبات إلينا تارة ، وإلى وجه الطفلة تارة أخرى . والمغني يتراقص على الشاشة ، وأنا أبحث خلسة عن لقطة تُظهر حذائه لأعرف جنسه . كنت مستاءً للغاية . كيف يخدعنا المخرج ويروّج لنا مغنٍّ دون اعطائنا حق الاطلاع على قدميه ولو مرة . وكان الجميع صامتاً . كيف اجتمع الحزن والغناء في غرفة واحدة صدفة ؟ . سألت الممرضة بعيداً عن مسامعهم :
- متى دخلت شيماء المستشفى ؟ .
- منذ شهرين على وجه التقريب .
- ولم تخرج خلال الشهرين أي يوم ؟
- لم تخرج ساعة واحدة ، وكذا والدتها .
- هل رأيت حذاءها ؟
- نعم ؟؟!!
- أقصد هل رأيتِ حذاء شيماء ؟
- هذا ليس وقت المزاح دكتور .كن جاداً .
تركتني الممرضة . هممتُ أن أصرخ : " إني جاد . أحببتها وأريد أن أعرف من كانت . لا أستطيع سؤال أحد والديها حتى لا تسبب لهم الذكرى أي ألم ". ولكني تجاهلت ذلك حين تذكرت أنني في قسم الأورام .
بدأت شيماء في التنفس بصعوبة . تسارعت دقات قلبها. عينا والدها مغروستان في الوجه الصغير . والمغني يرقص ولا يظهر حذاؤه . الممرضة سارعت في وضع جهاز الأكسجين . تزايد الزحام حول السرير ، وحملتني شيماء إلى أقصى دوائر الغريب العاجز. لم أستطع أن أنظر إلى الأسفل . كان كل شيء يكبر داخلي . ووجهها يرسم ابتسامة غريبة . الأعين كلها حائرة .
قلت لنفسي :" قد تنهض الآن وتطلب لعبتها ". ولكنها لم تنهض . بدأت بقع حمراء في الظهور على جلدها . ارتعشتُ . كيف لم انظر إليها قبل اليوم ؟ . ولِم اختارتني هذه اللحظة بالذات ؟!.كانت شيماء تناديني . مدّت كفاً من ياسمين وأومأت إلى الواقف قريباً من رأسها . قالت : " خذني إليك " . وأنا لا أفقه متى التقينا قبلاً ؟ . كانت كوجهي أبصره جديداً كل صباح . فتحتُ عينيّ فرأيتها تغمض عينيها . ازداد اضطرابها واختلطت الأصوات . رحلت أعينٌ في بعضها . نسجتْ هروباً جماعياً . قلتُ لشيماء : " مذ تزوجت لم أعد أثق في الوجوه ، ولكني وثقتُ الآن في وجهك " . ابتسمتْ .
أم شيماء تقف في ثقة مهيبة . فضاء الغرفة يضيق . المغنّي يزيد تراقصه . الأعين كلها جديدة والأحذية مختفية عن ناظري . كدتُ أنفجر . اتجهت مسرعاً نحو التلفاز وكسرته بقبضة يدي التي نزفت من فورها وهربتُ خارج الغرفة . سقط دمي على البلاط اللامع عند باب الغرفة .حاولت إخفاءه برجلي . اكتشفتُ أني أنظر إلى حذائي للمرة الأولى وأصطدم بشخص جديد [/size]